أثارت تصريحات وزير الخارجية اللبناني «شربل وهبة» حول «البدو الخلايجة» موجة امتعاض عارمة في بلاده وفي كل البلدان العربية، كردة فعل طبيعية ضد شعور عدواني استعلائي تجاه دول ومجتمعات أصيلة تتولى حالياً العبء الأكبر من الدفاع عن القضايا العربية ودعم الجهود التنموية في البلدان العربية الأخرى. لم تكن هذه التصريحات المستهجنة موجهة في الواقع للإنسان الخليجي بل للشخصية العربية في مقوماتها الحضارية وصورتها التاريخية والثقافية. البداوة هي الاسم الآخر للعروبة، وهي على عكس التصور السائد لا تعني التوحش والقسوة والجهل، وحتى ابن خلدون الذي تنسب إليه هذه الفكرة اعتبر أن البداوة هي أساس القيم العربية الأصيلة من كرم وشجاعة وجلَد، وبالتالي فهي القوة الدافعة لكل تحول نوعي إيجابي في التاريخ العربي.

ولقد ميّز ابن خلدون بين البدو المتنقلين والأعراب المحيطين بالحواضر والمدن الذين اعتبر أنهم معول التخريب والتدمير للمدنية والحضارة.
وكنتُ قد تجادلت مراراً مع الصديق المفكر البحريني البارز محمد جابر الأنصاري في أطروحته حول «جذور التعطل العميق» في الوجود السياسي العربي القائمة على إرجاع خلفيات التأزم السياسي في التاريخ العربي إلى هشاشة المؤسسات العمرانية الحضارية في مواجهة البداوة الصحراوية المتمردة والغازية. إن هذه الأطروحة التي تستمد عناصرها النظرية من المقاربات الاجتماعية التطورية، ترى في ثنائية القبيلة والبداوة عائقاً أمام تشكّل مجتمعات حديثة ومستقرّة، في حين أن الدراسات الانتروبولوجية أصبحت تنظر إلى البداوة كنمط من التشكل الاجتماعي وتدبير المكان وضبط الحركة السكانية أكثر من كونها شكلاً تاريخياً من النظام الاجتماعي المتجاوز. كما أن القبيلة لم يعد ينظر لها كمرحلة بدائية من التطور الاجتماعي، بل هي ضرب من الهوية الخصوصية لا يرتبط ضرورةً بمحددات النسب والقرابة. ومن هنا الحديث المتزايد عن «القبَليات الجديدة».
قبل سنوات كتب المفكر الفرنسي جاك أتالي كتاباً طريفاً بعنوان: «الإنسان البدوي»، وهو يعني هنا المترحل المتنقل، وقد ذهب فيه إلى أن البشرية التي عرفت الاستقرار العمراني قبل سبعة آلاف سنة هي حالياً في طور الرجوع إلى وضعها البدوي المتنقل. ويؤكد أتالي أن كل الاكتشافات الكبرى في تاريخ الحضارة الإنسانية قام بها البدو من النار إلى الكتابة والزراعة والرعي والملاحة والسوق والديمقراطية.. في حين لم يبدع الحضر المستقرون سوى القلاع والدول والضرائب.

ويذهب أتالي إلى أن أوروبا التي رجّح أن تكون تسميتها تعود إلى جذر مشترك مع العرب قد أنشأها البدو المترحلون من قبائل الفرانك (فرنسا) والفكينغ (روسيا) والجرمان (ألمانيا) والانجلس(بريطانيا).. إلخ، وتحولت إلى مشروع سياسي حديث على يد الفنانين والأدباء والفلاسفة المتنقلين الرحل. واليوم تعود البداوة بقوة من خلال وجوهها الثلاثة: الرحل المهاجرون المعوزون، والرحل الأغنياء المبحرون في عالم العولمة المفتوحة، والرحل المستقرون الذين يخشون الوقوع في وضع الصنف الأول ويطمحون إلى الصعود لوضع الصنف الثاني.
لقد أفضت الحروب والفتن المأساوية التي شهدتها العديد من الدول العربية إلى تشكيل عصر بدوي عربي جديد، بعد أن هجر الملايين من بيوتهم ومدنهم وغدَوا يسكنون في مخيمات اللاجئين المتنقلة، وتجددت الحاجة إلى الهياكل القبلية العتيقة لاحتضان المهمشين والمعوزين الذين لفظتهم الدولة المنهارة العاجزة.
وحتى في الدول الأكثر تقدماً ونمواً، ظهرت ثنائية القبيلة -البداوة في وجه جديد، وما الحديث السائد حالياً حول الأقليات والهويات الجماعية والانتماءات الأصيلة سوى مظهر لعودة القبيلة في أسوأ مظاهرها في مواجهة حركة تنقل جديد غيّرت جذرياً طبيعة المدينة المعاصرة التي لم يعد لها مركز حيوي وفضاء مدني جامع.
ليست الشعبويات الجديدة سوى تشكّلات قبَليّة بدوية جديدة حتى في خلفياتها القرابية وهاجس النقاوة الأصلية التي تدعيها.
وإذا كانت القبيلة البدوية العربية شكلت في الماضي رابطة انتماء مفتوح تدمج الغريب وتحتضنه وتأويه، فإن القبائل الجديدة التي أنتجتها الشعبويات الصاعدة تنزع إلى بناء الجدران ومطاردة المهاجر وإغلاق منافذ الضيافة والإدماج في وجه الآخر الوافد.
من حق المجتمعات الخليجية أن تفخر بانفتاحها وضيافتها الأصيلة، فقد احتضنت ملايين الوافدين من العرب وغيرهم.. وهي بذلك تظهِر وفاءَها لقيم البداوة العريقة التي تحوّل الضيافة إلى فلسفة حياة كاملة.
الضيافة من هذا المنظور هي البديل الأعمق عن العدالة في دلالاتها التبادلية الدنيا، وهي مظهر استقبال الغريب الوافد المترحل، وبالتالي فهي الفضيلة الكبرى للحضارة البدوية في ثوابتها المجتمعية التي هي نمط من العمران والتمدن وإن توهمها البعض تخلفاً وانحطاطاً.